عم إسماعيل الصعيدي التقي الفكاهي

الإثنين ١٠ - مارس - ٢٠٢٥
هلال عبدالحميد يكتب
عمي إسماعيل شقيق والدي الأصغر-رحمهما الله -وكان نموذجًا للصعيدي الشهم الشقي المتهور في شبابه، التقي الورع في شيخوخته
كان محبًا لاقتناء السلاح، وكانت لديه بندقية مرخصة،يعلقها بغرفة نومه وبجوارها خريطة للذخيرة
وعلى عكس والدي المسالم رجل المصالحات، الذي لا يؤمن بالعنف، ويكره السلاح.
عندما كنت طفلًا كنت أعشق السفر مع عمي اسماعيل، وبينما كان والدي يرفض سفري، إلا أن عمي كان دائما ما يفرض الأمر الواقع.
كانت سفريات عمي متعددة تقريبًا كل نصف شهر يسافر للقاهرة صحبة عربيات الفحم التي كان والدي وشركاه من أكبر تجاره بالصعيد ويوردونه وخشب البرتقال للقاهرة
كنت تقريبًا بالصف الأول الابتدائي، واصطحبني عمي لسفرية للقاهرة،وتوجهت سيارة الفحم الكبيرة لمصر الجديدة، وفي عودتنا لأسيوط كنا نتخذ القطار للعودة، وأمام محطة مصر كان تمثال رمسيس يقف شامخًا قبل نقله بعد سنوات طوال.
أمام تمثال رمسيس قلت لعمي: عايز اعمل حمام – بالصعيدي طبعًا-
من غير تردد أشار عمي لتمثال رمسيس قائلًا: شايف الراجل الطويل اللي بيعملها ده روح عنده واعمل زيه!
ببراءة الأطفال ذهبت وعملت زي عمنا رمسيس الثاني وكانت أمامه بحيرة صغيرة وكان التمثال كنافورة مياه.
كان عمي إسماعيل يقف بجواري تمامًا، وسمعت شاويش يمر بجواري ويقول لعمي : ايه يا راجل اللي بتخلي ابنك يعمله ده؟!
رد عمي سريعًا: راجل طويل عريض واقف يعملها قدامك اهه جات على طفل
ضحك الرجل واصطحبتي عمي لمحطة السكة الحديد
حدثت خلافات بين والدي وعمي وتم تقسيم كل شيء بينهما الزرع والتجارة والبيوت وغيرها من المتعلقات
وفي أحد الأيام في اول سن الشباب واعتقد كنت بالثانوية وقتها، وكنت اركب حمارة أصيلة، أتيت بها من حديقة مشتركة بيننا وبين عمي، وبالرهبة التي تضم بيوت العائلة ، رآني عمي إسماعيل ونادى علي : خد يا اد يا هلال
وعندما اقتربت منه نزلت من على ظهر الحمارة
أيوه يا عمي؟!
قال: مين قالك تركب الحمارة دي ؟!
لم ارد على سؤاله، ولكني قلت: لو عايزها يا عمي اتفضل
قال: ايوه عايزها، لأننا مقسمنهاش، فليه أبوك ياخدها
وعطتهاله واترجلت، فنادى علي مرة آخرى
تعالى خدها واركب حمار على حمارة، ضحكت وركبت الحمارة ومشيت
لم أتذكر أن والدي وعمي ادخلا اولادهما في خلافاتهما مطلقًا،ولم أتذكر ان عمي خاصمني، وربما كان موقفه الخاص بالحمارة على سبيل الفكاهة
حُبس والدي وعمي وابن عمهما محمد خزام احتياطيًا لفترة طويلة وصلت لسنتين تقريبًا، حتى حصلوا على البراءة وكانت فترة عصيبة للغاية، تولت ستي مخدومة زمام الأمور خلالها وكانت سيدة قوية، وذات قول فصل حتى في وجود ولديها، وكان والدي يتمتع بين الناس بمهابة خاصة على الرغم من كراهيته للعنف، ولكنه كان أمام ستي مخدومة كالطفل المطيع لا يكسر لها قولًا.
كان عمي يؤجر شقق لأحد بيوته، وكانت هناك شقة يستأجرها مخبر بمركز شرطة ساحل سليم، ويسكن فيها مع اسرته، قام عمي في أحد الأيام بطرد المخبر وشال كل أثاثه من الشقة ووضعها بالشارع
طلب رئيس المباحث عمي، فذهبت معه، وسأله رئيس المباحث: ليه مشيت المخبر بتاعنا من الشقة، وإزاي ترميله عفشته ف الشارع، وأضاف الضابط- أيام ما كان فيه قانون -،طيب هو عملك محضر وهتتحبس
قال عمي إسماعيل: يا باشا هو طرد مراته من البيت ودي ست غريبة، تروح فين وتيجي منين، أنا قعدتها مع العيال وهجبلها عفش وهديها الشقة وهو راجل يروح يشفله شقة.
ضحك رئيس المباحث طويلًا، وقال لعمي: طيب ما تحاول تصالحهم يا حاج يبقى كتر خيرك
أتذكر ان عمي صالحهما ورجعت الست لجوزها ورجع عمي العفش للشقة
عندما كبر عمي إسماعيل كف بصره، وبعد علاجات طويلة لم تجدٍ نفعًا
بيتي ملاصق للجامع الذي بناه أجدادي، وجدده والدي، وكان عم إسماعيل يتولى فتح المسجد فجرًا وعلى الرغم من وجود عمال وخطيب ومؤذن إلا أن عمي كان هو من يفتح المسجد فجرا ويؤذن
عمي لم يكن يفتح المسجد قبل صلاة الفجر بفترة وجيزة، وإنما يفتحه قبل الصلاة بساعة أو ساعتين، وعندما يفتح المسجد يشغل الميكريفون ويبدأ بقوله : الله الله الله، يردد لفظ الجلالة ثلاثة مرات بصوت أجش
وكانت السماعات سيئة للغاية، وكان صوت عمي إسماعيل لا يصلح للأذان مطلقًا، ولكنه كان يؤذن للفروض جميعًا.
وبعد ما يصحي كل المجاورن للمسجد بمسافات طويلة، يقوم بتشغيل إذاعة القرآن الكريم، وكان تردد إذاعة القرآن الكريم تغيب ويتخلل إذاعة القرآن أغاني لعبدالحليم حافظ وأم كلثوم ونجاة الصغيرة، وكان عمي يحرك المؤشر لإعادة ضبط المؤشر على إذاعة القرآن الكريم، ولكن الأغاني تعود لتتخلل إذاعة القرآن الكريم.
كان عمي على الرغم من حبه للسلاح وللعنف في حل المشكلات، إلا أنه كان شديد الكرم، وشديد الفكاهة ، وكان في أواخر عمره مقيمًا دائمًا بالمسجد، يقوم بالأذان، ويصلي الفروض في أوقاتها.
كنت في أواخر أيامه ملاصقًا له بشكل كبير، وكنت اصطحبه في معظم الصلوات لباب الجامع،واخرج بعد إيصاله ولم اكن أصلي للأسف، وكان يسكن في بيت كبير للغاية ومكون من طابقين وكان بالبيت سلم داخلي وكان عمي يسكن في الدورالعلوي، وكنا نحاول إقناعه بالنزول للدور السفلي، ولكنه كان يرفض، ولم يستجب إلا في أوخر أيامه
كان عمي إسماعيل رجلًا محبًا للناس وللخير وكان يتمتع بروح الفكاهة، وكانت ضحكته صافية تشفي القلوب اللهم اغفر له وارحمه واسكنه فسيح جناتك ووالدينا ووالديكم